سورة الزخرف - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)}
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ} يعني: أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمدّ في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة، وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد {حتى جَاءَهُمُ الحق} وهو القرآن {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} الرسالة واضحها بما معه من الآيات البينة، فكذبوا به وسموه ساحراً وما جاء به سحراً ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم. وقرئ {بل متعنا} فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ {متعت} بفتح التاء؟ قلت: كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] فقال: بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعبيرهم؛ لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول: أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك، وغرضه بها الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله.


{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}
فإن قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع، ثم أردفه قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ} فما طريقه هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته، فقال: بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه، ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال: ولما جاءهم الحق جاؤوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها: وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول، ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد من أهل زمانه بقولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم، قرئ {على رجل} بسكون الجيم من القريتين: من إحدى القريتين، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أي من أحدهما. والقريتان: مكة والطائف. وقيل: من رجلي القريتين، وهما: الوليد بن المغيرة المخزومي وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، عن ابن عباس.
وعن مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل.
وعن قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي، وكان الوليد يقول: لو كان حقاً ما يقول محمد لنزل هذا القرآن عليّ أو على أبي مسعود الثقفي، وأبو مسعود: كنية عروة بن مسعود ما زالوا ينكرون أن يبعث الله بشراً رسولاً، فلما علموا بتكرير الله الحجج أن الرسل لم يكونوا إلا رجالاً من أهل القرى، جاؤوا بالإنكار من وجه آخر، وهو تحكمهم أن يكون أحد هذين، وقولهم: هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة به، وأرادوا بعظم الرجل: رياسته وتقدّمه في الدنيا، وعزب عن عقولهم أن العظيم من كان عند الله عظيماً.


{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلاً فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأنّ الله عز وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسوِّ بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدماً، ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدمون في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم؛ ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا. وإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام؟ ثم قال: {وَرَحْمَةُ رَبّكَ} يريد: وهذه الرحمة وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب: خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا.
فإن قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع، ومنهم من يعيش بالحلال، ومنهم من يعيش بالحرام؛ فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال.
قلت: الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع وأذن له في تناولها، ولكن شرط عليه وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي شرعها؛ فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالاً، وسماها رزق الله؛ وإذا لم يسلكها تناولها حراماً، وليس له أن يسميها رزق الله؛ فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم، وهو عدولهم فيه عما شرعه الله إلى ما لم يشرعهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8